... أثناء محادثة هاتفيّة مطوّلة يشير في جزء منها إلى «الطُرُق المثاليّة» للحفاظ على المخطوطات القرآنية. على الطاولة أمامه بعض الأوراق والوثائق و«مصحفٌ» من الحجم الوسط تعود طباعته إلى زمن بعيد كما يظهر من «قماشة» جلدتَيْه. وإلى يساره مكتبة صغيرة تتوسّطها صورة لوفد «عُلَمَائي» التقطت أثناء زيارة إلى أحد المعالم «السياحيّة» في الجنوب اللبناني. يبرَعُ الرجُل في «فن» التواصل مع الناس.

الشيخ علي خازم

يشهد له بذلك كثيرون مِن حولِه وهو صاحب الباع الطويل في مدِّ الجسور على مستوى السّاحة الإسلامية، ويتولّى موقعاً قيادياً في «تجمّع العلماء المسلمين» منذ تأسيسه في عام 1982. على إحدى «الصفحات» المتخصِّصة في المخطوطات القرآنية، يكتب مراسلاً أحد القيّمين عليها: «مِن فضلك احجز لي نسخة منه». ... يأخذ نفَسَاً عميقاً قبل أن يجيب على سؤال حول معرض «صُحُف» القرآني الذي نظّمه قبل أسابيع في قصر الأونيسكو في بيروت: «الحمدلله نجحنا». يريد الشيخ علي خازم (1956) أن يعيد الاعتبار إلى «المصحف الشريف» ككتاب ورقي.
يقول: «كلمة مصحف معناها الكتاب المجموع بين دفّتين، وهو الكتاب الأول عند العرب، إذ ليس في آثارهم ما يدلُّ على أنهم انتجوا كتاباً مجموعاً بين دفّتين قبل القرآن». يرى بأن الناس مثلاً لا تهتم بتفاصيل متعلّقة بنوع الخط واسم الخطاط والرموز الموجودة في المصحف وعلامات الضبط وغيرها، مشيراً إلى أن كثيراً منهم يجهلون أن المصحف المطبوع هو في أصله مخطوط. «لا يُطبَع المصحف إلا أن يَكتب الخطّاط مصحفاً على أوراق بحجم كبير تُصَوَّر ومن ثمّ تُطبَع. هذا هو الأصل في طباعة المصحف، ولكن هناك ثلاث نسخ في العالم الإسلامي تفرّدت بكون حروفها كومبيوتريّة مستمدّة من الحرف الأصلي لِمَن خّطها وأكثرها شيوعاً نسخة الخطاط السوري السعودي المعروف عثمان طه». يحاول خازم أن يقدّم المصحف للناس ككتاب فضلاً عن كونه «نصاً مقدّساً وحاجة إيمانية»، مشيراً في السياق إلى نوعين من التدوين وهما «الرسم العثماني» (نسبة إلى عثمان بن عفان) وهو الأكثر انتشاراً و الرسم «الإملائي القياسي» الذي يعتمد الكتابة الأكثر تبسيطاً. يقول الرجل: «تطوير كتابة المصحف مسألة مطروحة للنقاش وأميلُ للرأي الذي يقول بضرورة أن يبقى المصحف بالرسم العثماني، لكن لا مانع من كتابته بالرسم الإملائي لغايات وأهداف تعليمية».
«مصحف فلسطين» بخط إبراهيم صالح الحديثي من أقدم النسخ في المصاحف الموجودة لديه


تحويل «صحف» إلى مؤسّسة؟ 
يؤكّد الشيخ علي خازم أنّ تنظيم معرض خاص بالمصحف الشريف هو من الأمنيات الكبيرة التي كانت تراوده لسنوات طويلة. «كان الأمر حلماً حقّقته بتعاون وجهد كبيرَيْن من أفراد عائلتي، وبات اليوم الأوّل من نوعه في لبنان». لكنّ الرجل يريد لـ «الفعالية» أن تصل إلى أكبر عدد ممكن من الناس. «أريد أن أصل إلى الناس في المناطق أيضاً، وسننظم المعرض القرآني في أكثر من منطقة لبنانية». وإذ يلفت خازم إلى أنّ نقل «الأدوات» لمسافات طويلة هي عمليّة دقيقة وحسّاسة، يرى بأن ما يقوم به في هذا الإطار عمل يستحقّ المغامرة، منوّهاً بدور المهندسة تانيا الحاج بالمساعدة في تجهيز أدوات العرض لتكون قابلة للنقل والعرض. كانت «الانطلاقة» الأولى قبل سنتين في معرض «الكتابة والوراقة من الرق إلى الرقاقة» في برج البراجنة وهي تتّجه لتكريسها فعالية سنوية في شهر رمضان ولاحقاً لتكون معرضاً دائماً. 

مخطوط فلسطين()

«أسعى لتحويل المعرض إلى مؤسسة، ولكن مؤسسة تطوّعية على مستوى العائلة». مع ذلك، لا يمانع الشيخ علي في التعاون مع جهات أخرى بهدف تطوير التجربة «شرط الحفاظ على جوهر الرؤية التي وضعها للمشروع». يقول: «حفظ هذا الإرث هو مسؤولية مشتركة بين المهتمّين والجهات الروحية والحكومية». يضيف: «عندما يتحدّث البعض عن تشجيع السياحة الدينية مثلاً، فهذا يتطلّب أن يكون لديك أماكن تحفظ وتؤرّخ لكل ما له علاقة بالكتب المقدسة للطوائف اللبنانية». وهو ـــ على حدّ قول خازم ــــ «إرث ثقافي بصري مادي عابر للزمان ومتحيّز في المكان، وفيه أرواح أجيال مؤمنة عاشت مع هذه المعروضات منذ ضربة القصب الأولى في كتابة أصولها».

شغف تشرَّبه بملعقة الأُم
يبتسم الشيخ علي مجدّداً عندما يُسأَل عن «بدايات الشغف» باقتناء المصاحف وأدوات القراءة والكتابة. «ورثتُ الشغف من الوالدة بشكل خاص ومن الجدَّيْن لا سيما جدّي لأمّي». يضيف: «هناك مقتنيات قيّمة وصلت إليّ في سنّ مبكّرة واحتفظتُ بها ولاحقاً تطوّر الدافع فصرتُ أبحث عنها وأتتبّعها في أمكنة متخصّصة». يشير الرجل إلى أن بعضاً من المصاحف والمخطوطات التي بحوزته جاء بها من أسفاره الخارجية، وجزءاً آخر عبر أصدقائه في عدد كبير من الدول، لافتاً إلى أنه حصل أخيراً على نسخة من المصحف مترجمة إلى اللغة التاميلية الهندية. ويُعدُّ «مصحف فلسطين» بخط إبراهيم صالح الحديثي (سحماتة) من أقدم النسخ الخطيّة المؤرخة في المصاحف التامة الموجودة لديه (تاريخ الكتابة 1754 ميلادي-1167 هجري).

مخطوط مجمع البيان

لكنّ الرجل يوضح أنّ الشغف لا يعني «هوّساً» بالضرورة، ذلك أن نسخاً نادرة من المصحف عُرضت عليه لكنه لم يبتاعها لأن أسعارها تفوق قدرته الشرائية. «الهدف هو التنوّع وليس السعي لحيازة أكبر كميّة من المخطوطات». بعد نجاحه في شهادة الـ «سرتيفيكا» في عام 1967، تلقّى الشيخ علي هديّة عزيزة على قلبه وهي عبارة عن «دواة» متوارثة عن جدّ أبيه. منذ ذلك الحين، بدأت حكايته مع «الأدوات» والوثائق. يحتفظ في مكتبته الخاصة بوثائق ترجع إلى زمن الدولة العثمانية. يقول خازم: «أخيراً، حصلتُ على سند عقاري للمنطقة التي تملّك فيها آل خازم في برج البراجنة أول قدومهم من الجنوب (أنصارية وعدلون). هناك وثيقة لملكية أحد العقارات (أواخر القرن التاسع عشر) تعود إلى أحمد خازم وهو شقيق والدة الشهيد عبد الكريم الخليل». في مكتبة الشيخ وثيقة عن «الإعفاء من الجندية» في تلك المرحلة، وفاتورة تظهر كمية الشرانق (دود الحرير) التي سلّمها جدّه إلى أحد معامل الحرير في برج البراجنة في ذلك الحين.


يحتفظ الشيخ بأشياء لها رمزية خاصة في مراحل مختلفة. فهو لا يزال يحتفظ مثلاً بأوراق المسوّدة لامتحانات شهادة البريفيه ومأذونياته خلال أدائه الخدمة العسكرية في الجيش، ويحتفظ أيضاً بالملعقة التي شرب فيها ماء وسكّراً أوّل مرة على يد أمّه، والعلبة التي وزّع فيها والده الحلوى عندما علم بولادته وتلك التي وزّعت فيها والدته «الملبَّس» عند خطوبته وغيرها الكثير.


مخطوطة «برمنغهام» وإشكالية الترجمة
يجزم الشيخ علي خازم بأنَّ القرآن المنتشر اليوم بين المسلمين هو ذاته القرآن الذي جُمع على أيّام عثمان بن عفان. «لم يلحقه أيّ تزوير، إلا أن تتعمّد جهةٌ ما عملية التزوير وهذا ما يمكن ضبطه». وإذ يلفت إلى أنّ مصطلح «تاريخ القرآن» لم يظهر إلا قبل مئة سنة تقريباً. يشير إلى مجموعة مخطوطات قديمة للمصحف أبرزها مخطوطة «برمنغهام» ومخطوطة جامعة «توبنجن» الألمانية اللتين ألقي عليهما الضوء أخيراً، ومخطوطة مسجد صنعاء الكبير. وقد توصّل الباحثون والمحققون إلى أن المادة المكتوبة في هذه المخطوطات، تعود إلى فترة زمنية لا تتجاوز الثلاثة عقود من وفاة النبي محمد، أي في الفترة ذاتها التي جُمِع فيها مصحف عثمان. يقول في السياق ذاته: «أنا شخصياً قمتُ بالتحقيق بمخطوطة برمنغهام المكتوبة بالخط الحجازي الأول وأجريت مقارنة مع الخط النسخي الرائج في أي مصحف حديث، فوجدتُ تطابقاً تاماً في المحتوى». يضيف خازم: «حتى في نسخة مصحف طشقند، وهي من النسخ الستّ الأقدم في العالم، تظهر فيها آية إنّا نحنُ نزَّلنا الذِّكْر وإنّا له لحافظون» التي يُستدَلُّ فيها إيمانياً على حفظ القرآن من التزوير. وهي بذلك تشكّل أيضاً أثراً مادياً كان موجوداً في المرحلة الأولى من كتابة المصحف. ولكن ألا تؤثّر ترجمة القرآن إلى أكثر من 70 لغة عالمية في تغيير المعنى والمضمون الحقيقي للآيات؟ «هذه إشكالية طبعاً» يقول الشيخ، قبل أن يضيف: «الترجمة، وهي من مسائل علوم القرآن، تمكّنت من نقل معنى الآية فقط. مشكلة نقل النصوص الأدبية وترجمتها هي إشكالية كبرى، فكيف الحال مع نص مقدّس كالقرآن؟» يرى الشيخ خازم أن ترجمة الآيات القرآنية تسهم في أحيان كثيرة في إعطاء صورة مغايرة عن النص الأصلي كآيات القتال وغيرها، ما يُلحِق الضرر المعنوي بصورة القرآن والإسلام. لكنه يرى في المقابل أن الترجمة ضرورية كونها تسهّل فهم النص الديني للمسلمين من غير العرب وهي شكل من أشكال التفسير القرآني. «تفسير القرآن وآياته هو أصلاً قضية إشكالية كبيرة».